سلوك التنمر عند الأطفال والمراهقين
سلوك التنمر عند الأطفال والمراهقين
د. علي موسى صبحيين د. محمد فرحان القضاة
جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية
المقدمة:
التنمر، أو الاستقواء، من السلوكيات السلبية الخفية في المجتمع، وله أثر كبير وسيء على الأطفال والمراهقين، وهو سلوك موجه من طفل أو مراهق إلى آخر يماثله في العمر أو يصغره، ويؤدِّ إلى اضطهاد الضحية وانعزاله وتراجع مستواه الأكاديمي، وبالمقابل يؤدِّ للتطور سلوكيات المستقوي إلى الإجرامية والعدوانية مع احتمالية التوجه إلى المخدرات والعنف باستخدام السلاح.
وتأتِ أهمية هذه الدراسة بتناولها كافة جوانب هذه الظاهرة، ببحثها مسبباتها وآثارها وطرق تفاديها وعلاجها إن وجدت، مع الرجوع الى الدراسات السابقة المشابهة عالميّا وعربيّا.
سلوك التنمر:
التنمر أو الإستقواء سلوك مكتسب من البيئة التي ينشأ فيها الفرد، يقوم فيه الطرف القوى بإيذاء الطرف الأضعف، نفسياً أو جسدياً أو جنسياً. ويستوجب هذا الفعل التدخل المبكر ونشر الوعي لحماية كافة الأطراف، القوية والضعيفة والمتفرجة؛ لأنه يمنعهم ممارسة حياتهم طبيعيّا ويؤثر سلباً على علاقاتهم الفردية والمجتمعية.
يظهر سلوك التنمر منذ الصغر، تحديدًا منذ السنة الثانية من عمر الطفل، ويبدأ بالتطور والنمو التدريجي في المرحلة التعليمية الأساسية ثم العليا، إلى أن يبدأ بالهبوط في المرحله الثانوية، ويكاد يختفي في الجامعة. وهناك بعض الحالات الخاصة من الاستقواء، كاستقواء الأزواج على بعضهما والاستقواء في العمل.
إذن، يحدث الاستقواء نتيجة عدم توازن بين طرفين، فيقوم المستقوي بإذلال الضعيف لفظياً أو جسدياً. ويختلف الاستقواء عن الإيذاء العرَضي، فالاستقواء إيذاء مستمر ومقصود، بهدف إيذاء الضحية والإساءة إليه، وفيه يحجم الضحية عن الإفصاح عما يحدث له ولمن معه؛ فيساعد المعتدي على التمادي.
وأشكال التنمر كثيرة؛ منها الاستقواء الجسدي كالضرب أو الإجبار بعنف لعمل شيء ما، والاستقواء اللفظي بالشتم والذم والتسميات السيئة والعرقية، والاستقواء الجنسي بالكلام أو بالأفعال، والاستقواء النفسي بالتهديد والتخويف، والاستقواء في العلاقات الاجتماعية بمنع الضحايا من المشاركة في الأنشطه ورفض صداقاتهم، والاستقواء المادي بأخذ الممتلكات أو إتلافها، والاستقواء عبر الإنترنت بإرسال الرسائل والمضايقات الإلكترونية.
وتختلف درجة هذا السلوك وفق البيئة التي يحدث فيها، سواء في المدرسة أو مراكز الإصلاح أو العمل، كما تلعب الفوارق الثقافية من مجتمع إلى آخر دوراً كبيراً في مفهوم الاستقواء وحجمه.
ظاهرة التنمر للأسف في تزايد مستمر، وترتفع نسبتها من عام إلى آخر على الرغم من التوجه إلى توعية المجتمعات بها، فهي تنتشر بين الذكور أكثر من الإناث؛ لأن العلاقة بين الذكور مبنية أساساً على القوة، أما بين الإناث فيحدث نتيجة الانتساب إلى الأنشطة.
وتشير الدراسة إلى إمكان التعرف على المتنمرين من خلال ملاحظات المرشد النفسي في المدرسة، وسجل المقابلات الفردية معهم، وملاحظات مربي الصفوف لسلوكهم مع أقرانهم، إلى جانب تطبيق مقياس السلوك التنمري. وفي الدراسة عرض تفصيلي لأحد أنواع قياس السلوك التنمري تم تطبيقه في الأردن واعتمدت مصداقيته على صدق المحتوى، وصدق البناء، وثبات المقياس.
وأشار الباحثان إلى حقائق كثيرة ومتعددة عن التنمر، أولها أن التنمر أكثر من مجرد مضايقة وإزعاج للضحية، بل هو حالة من عدم التوازن بين المستقوي والضحية، تهدف إلى إذلال الأخير أو السخرية منه أو أذيّته.
والحقيقة الثانية تكمن في أنه سلوك ناتج عن البيئة، ما يعني أن أي فرد قد يصبح متنمراً ومستقوياً بحسب بيئته الاجتماعية ونمط تنشئته فيها وما تعلمه فيها عن مفهوم القوة وأهميتها في حياته اليومية.
والحقيقة الثالثة أن كل طفل قد يصبح ضحية للمستقوي، وهذا يتوقف أيضا على بيئته الاجتماعية ونمط تنشئته: إذا كانت لديه حالة مرضية، أو إعاقة، أو كان مسيطراً عليه في المنزل من قِبل أحد أفراد أسرته، أو يقع تحت حماية مبالغ فيها من الأهل؛ سيكون من السهولة بمكان أن يذعن لطلبات المستقوي وينقاد لأوامره.
وبالمجمل؛ الضحايا قد يكونوا سلبيين فينسحبوا وينعزلوا إيثارًا للسلامة، أو قد يتحوّلوا إلى مستقوين فيلجؤون إلى العنف والعناد من أجل حماية أنفسهم. وفي كلتا الحالتين سيعاني الضحايا من الوحدة والاكتئاب وعدم القدرة على التكيف مع مجتمعهم.
ويذكر الباحثون الحقيقة الرابعة وهي أن التنمر سلوك قديم، لكن تسليط الضوء عليه والاهتمام بوضع القوانين ونشر التوعية ضده نشط حديثًا.
ويضيفان أن التنمر مشكلة كبيرة بحاجة إلى خطة شاملة يشارك فيها الجميع لمساعدة الضحايا والمتنمرين، بتضافر الأسرة والمدرسة والمجتمع.
المشاركون في التنمر:
ركزت الدراسة على وصف كل حالة من المشاركين في التنمر؛ وهم: المستقوي والضحية والمتفرج. فالمستقوي يستغل خوف الضحية ولديه ضعف في التعاطف مع الآخرين والشعور بهم، ولديه مشاكل عائلية مثل إستقواء الأب على الأم، فيمارس هو بالتنمر ارتدادًا لما يراه، وتأخذ عملية الاستقواء أشكالًا متعددة عنده، فقد يستقوي لوحده أو مع مجموعة غير متجانسة من الأفراد، أو يكون ضمن مجموعة مستقوين من نفس العائلة.
أما الضحية فهو الفرد الذي لا يدافع عن نفسه، ويستسلم للمستقوي ليذله ويؤذيه، وفي ملامحه الاكتئاب والتردد وعدم القدرة على اتخاذ أي قرار يفيده أو يحميه.
والمشارك الثالث في التنمر والذي يجهله البعض، هو المتفرج الذي يشعر بالذنب لعدم تدخله لإيقاف المستقوي. وهذا النوع أقل قوة من المتنمر، ولديه ضعف في الثقة بالنفس، ومنهم من ينعزل خوفاً من أن يكون ضحية جديدة للمستقوي، وبعضهم الآخر يشارك بالهتاف والتشجيع للمستقوي ليأمن غدره.
أسباب التنمر:
توضح الدراسة أسباب سلوك الإستقواء بين الأطفال والمراهقين، فهو قد يكون مجرد سلوك طائش لعدم معرفة المستقوي بنتائج عمله أو لأنه يرى الضحية يستحق ذلك، كما أن العوامل النفسية لها دور كبير في ممارسة سلوك التنمر لأن أن السلوك الاستقوائي يفرغ انفعالات المتنمرين وغضبهم وقلقهم من أمور أخرى يعانون منها وبالتالي يشعرون بالارتياح بعد تخلصهم من هذه الطاقات السلبية التي تحرك في داخلهم وسلوكهم.
وتشدد الدراسة على ذكر العوامل الاجتماعية التي تساعد في ظهور المستقوين، فبيئة المنزل المليئة بالعنف أو التدليل المفرط تدفع إلى الاستقواء، وكذلك العلاقات غير السليمة بين أفراد العائلة والأبوين بالأخص، إلى جانب تدني مستوى المعيشة وأمية الآباء والأمهات والإحباط.
ولم تغفل الدراسة دور بيئة المدرسة في ظهور سلوك التنمر، من ناحية ثقافة المدرسة، ومحيطها المادي، والرفاق، والمعلمين وعلاقتهم بالطلبة التي قد تستفزهم وتؤثر سلباً على علاقتهم بزملائهم.
وقام الباحثان باستعراض العديد من النظريات التربوية والنفسية لكبار العلماء في سبيل توضيح أسباب السلوك الاستقوائي بين الأطفال والمراهقين.
دراسات حول التنمر:
رصدت الدراسة كثيرًا من الدراسات السابقة التي تناولت التنمر واستعرضتها وتناولت نتائجها، ولاحظ الباحثان أن نتائج تلك الدراسات معتمده بالأساس على نوع العينات التي قامت عليها من الذكور وإناث ومتأثرة بثقافة الدول المشاركة، كما لاحظا أن الذكور في تلك الدراسات تعرضوا للاستقواء أكثر من الإناث، فيما كان الاستقواء بين الذكور مباشراً وبين الإناث غير مباشر، والاستقواء اللفظي أكثر الأنواع تكرارًا، وتبين الباحثان أيضًا أنه وبرغم وجود ظاهرة الاستقواء وانتشارها عالمياً إلا أن نسبها متفاوتة من بلد إلى آخر، ففي انجلترا مثلاً كانت أعلى من ألمانيا بثلاث مرات، وفي الريف أعلى من المدن.
وإلى جانب الدراسات السابقة في رصد التنمر، تطرق الباحثان إلى دراسات تناولت برامج إرشادية وعلاجية للتنمر وتهدف إلى خلق بيئة مدرسية وأسرية آمنة وضمان تطوير مهارات المستقوين وإدراكهم مع إكسابهم مهارات اجتماعية وقيماً إنسانية تساعدهم في تكوين علاقات حقيقية مع الآخرين، استنادًا إلى أن التدخلات الإرشادية والمعرفية والبرامج ضرورية جداً لتخليص المستقويين من سلوكهم الضار بهم قبل ضحاياهم.
وقد حرص الباحثان على استعراض تفصيلي لدراسة في البادية الشمالية في الأردن، ذكرا فيها أهداف الدراسة وخطواتها ونتائجها التفصيلية للإستقواء في المدارس الأردنية، والتوصيات التي دعت إليها.
البرامج العلاجية والإرشادية المقترحة للتعامل مع سلوك التنمر:
وقد خصص الباحثان أكثر من نصف الدراسة لاستعراض البرامج العلاجية في مواجهة ظاهرة الاستقواء المتزايد بين الأطفال والمراهقين، ابتداءً من برامج إثارة الوعي بين الطلاب وأولياء الأمور وانتهاءً ببرامج السياسات والإجراءات المدرسية.
واقتضى تناول البرامج العلاجية التعرف أكثر على خصائص الشريحة المستهدفة الواقعة بين مرحلتي الطفولة والمراهقة، بدراسة خصائص نموها الحسي والجسدي والعاطفي والاجتماعي، ومن ثم إعطاء التوجيه والإرشاد الملائم لكل مرحلة وفقًا لما يناسبها، بالتركيز على المراهقة لأنها تأخذ اتجاهات مختلفة، ما بين مراهقة متكيفة وانسحابية وعدوانية ومنحرفة، وبالتالي لكل اتجاه منها معالجة مختلفة.
وبعد الإطلاع على كل ما يهم ظاهرة التنمر، قام الباحثان بوضع وإعداد برنامج جمعي عقلاني انفعالي سلوكي، يهدف إلى تخفيض سلوك المستقوين، يحتوي على (14) جلسة إرشاد جمعي، مدة كل جلسة 90 دقيقة ولكل منها أهداف وتمارين وواجبات منزلية، وتعمل جميعها على توعية المسترشد بخطورة الاستقواء ونتائجه على كل أطرافه.
ولإنجاح هذه الخطه العلاجية يفترض المعد السرية التامة في الجلسات، كما يفترض حرية المشاركة من المجموعات إذ تترتب على الحضور حقوق وواجبات لابد من الالتزام بها، فللمشارك مثلًا أن ينسحب بعد الجلسة الأولى لكن ليس له أن ينسحب بعدها، ويُسمح بتبادل المقاعد وتناول الشاي على أن يلتزم الجميع بالاحترام المتبادل وعدم المقاطعة عند الحديث. وقد فصّل الباحثان الأهداف والتوقعات لكل جلسة؛ لتقاس بها النتائج بعد نهايتها.
فالجلسة الأولى للتعارف بين المرشدين والمسترشدين وتهدف إلى بناء علاقات إيجابية وقواعد للعمل الجماعي.
والجلسة الثانية للترحيب بالمسترشدين، ومعرفة ماهي توقعاتهم عند الانتهاء من هذا البرنامج، مع إثارة وعيهم إزاء سلوكهم الاستقوائي ودوافعه.
في الجلسة الثالثة تُبحث الأفكار الخاطئة التي تدفع المسترشدين للاستقواء، وتُناقش من خلال الحديث الذاتي بينهم.
الجلسة الرابعة تهدف إلى تعريف المسترشدين بأن الأحداث لا تصنع السلوك بل الأفكار والمعتقدات الخاطئة التي يجب تغييرها للأفضل.
في الجلسة الخامسة يبدأ الجميع البحث عن السلوك الإيجابي وتعزيز الهوايات البناءة، من خلال المراقبة الذاتية للسلوك.
وفي الجلسة السادسة يناقش المسترشدين بعض الأفكار والاقتراحات لوقف السلوك الاستقوائي وللموازنة ما بين الحقوق والواجبات.
ومن الجلسة السابعة تبدأ رحلة التحكم في الانفعالات والغضب، وتعلم مهارات الاسترخاء.
والجلسة الثامنة مخصصة لتعزيز التواصل مع الآخر وتعزيز مهارة الاستماع لفهم الطرف الآخر.
الجلسة التاسعة تطرح مهارة حل المشكلات والتدرّب عليها.
وفي الجلسة العاشرة يبدأ المسترشدون دراسة حالات استقواء حقيقية ومناقشة دور كل من الضحية والمستقوي فيها، لأجل التوصل إلى موقف إيجابي ضد الاستقواء.
وتقام المحكمة في الجلسة الحادية عشرة، وفيها يمثّل المسترشدون عملية استقواء، ويتبادلون الأدوار بين قاضٍ ومحامٍ وشهود.
والجلسة الثانية عشرة تهدف إلى تعزيز مهارة الاسترخاء والتحكم الانفعالي للمسترشدين.
وتحضّ الجلسة الثالثة عشرة المسترشدين على تكوين الصداقات.
وأخيرًا في الجلسة الرابعة عشرة توزّع استبانة البرنامج ويناقَش فيها المسترشدين ويحتفل الجميع بنجاح البرنامج.
إذاً، لم يعد الاهتمام بالمشكلات الطلابية ترفاً تربوياً كما خلصت الدراسة، بل هو أمر ملحّ في ظل العولمة والتكنولوجيا الحديثة والتطورات الإقتصادية والإجتماعية المتسارعة في وقتنا الحاضر، ويجب أن تتكاتف فيه كل الأطراف، الأسرة والمدرسة والمجتمع، لأن صعوبة الحياة وتعقيداتها أدت إلى ظهور سلوكيات غير مرغوبة بين الأطفال والمراهقين ومن ضمنها التنمر، وذلك في غياب الرقابة الأسرية والمدرسية.
وقد أوصت الدراسة بضرورة إجراء مزيد من الدراسات حول الاستقواء بين الطلبة في مختلف المراحل الدراسية. دراسات نوعية تشمل المشكلة من جوانب عديدة. كما أوصت بإعداد برامج خاصة لكل الفئات المتأثرة والمؤثرة في الاستقواء، المستقوين والضحايا وأولياء الأمور والمعلمين وغيرهم، مع تطوير برامج الإرشاد المعتمدة على الإرشاد النفسي؛ لنتمكن من ضبط سلوك الإستقواء وتقويمه وبالتالي يستطيع المستقوون والضحايا والمتفرجون الاندماج في المجتمع من جديد.